كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قوله الْبَدَنُ دَائِمًا فِي التَّحَلُّلِ فَإِنَّ تَحَلُّلَ الْبَدَنِ لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ انْقِلَابِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَحَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا خِلَافُ حَقِيقَةِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا الْبَدَنُ الْمُتَحَلِّلُ فَالْأَجْزَاءُ الثَّانِيَةُ تُشَابِهُ الْأُولَى وَتُمَاثِلُهَا وَإِذَا كَانَ فِي الْإِعَادَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْقِلَابِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ فَكَيْفَ بِانْقِلَابِهِ بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَهُوَ شَابٌّ ثُمَّ رَآهُ وَهُوَ شَيْخٌ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ مَعَ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كَمَنْ غَابَ عَنْ شَجَرَةٍ مُدَّةً ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى مَعَ أَنَّ التَّحَلُّلَ وَالِاسْتِحَالَةَ ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ. كَمَا هُوَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَحْتَاجُ عَاقِلٌ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ هِيَ الْأُولَى وَأَنَّ هَذِهِ الْفَرَسَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْ سِنِينَ وَلَا أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي رَآهُ مِنْ عِشْرِينَ سُنَّةً إلَى أَنْ يُقَدِّرَ بَقَاءَ أَجْزَاءٍ أَصْلِيَّةٍ لَمْ تَتَحَلَّلْ وَلَا يَخْطِرُ هَذَا بِبَالِ أحد وَلَا يَقْتَصِرْ الْعُقَلَاءُ فِي قولهمْ هَذَا هُوَ ذَاكَ عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ وَلَا تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا. بَلْ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى جُمْلَةِ الشَّجَرَةِ وَالْفَرَسِ وَالْإِنْسَانُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَانَ صَغِيرًا فَكَبِرَ. وَلَا يُقال إنَّمَا كَانَ هُوَ ذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ واحدة كَمَا زَعَمَهُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْبَدَنَ الثَّانِيَ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الْأَوَّلَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ جَزَاءُ النَّفْسِ بِنَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ فَفِي أَيْ بَدَنٍ كَانَتْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقول مِنْ الْإِعَادَةِ. فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُقَلَاءَ كُلَّهُمْ يَقولونَ: هَذَا الْفَرَسُ هُوَ ذَاكَ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ هِيَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ سِنِينَ مَعَ عِلْمِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ نَاطِقَةٌ تُفَارِقُهُ وَتَقُومُ بِذَاتِهَا وَكَذَلِكَ يَقولونَ: مِثْلَ هَذَا فِي الْحَيَوَانِ وَفِي الْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِهَذَا وَذَاكَ نَفْسٌ مُفَارَقَةٌ. بَلْ قَدْ لَا يَخْطِرُ هَذَا بِقُلُوبِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُقَلَاءَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ هُوَ ذَاكَ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِحَالَةِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْبَدَنُ الَّذِي يُعَادُ فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ وَلِهَذَا يَشْهَدُ الْبَدَنُ الْمُعَادُ بِمَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا. كَمَا قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَقال تعالى: {حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقالوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قالوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قال قولا أَوْ فَعَلَ فِعْلًا أَوْ رَأَى غَيْرَهُ يَفْعَلُ أَوْ سَمِعَهُ يَقول ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سُنَّةً شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا قال أَوْ فَعَلَ وَهُوَ الْإِقرار الَّذِي يُؤَاخَذُ بِمُوجِبِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَأَقَرَّ بَهْ مِنْ الْحُقُوقِ لَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً مَعَ اسْتِحَالَةِ بَدَنِهِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَلَا يَقول عَاقِلٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ: إنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُعَيَّنُ حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ وَشَهِدَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ قَبَضَهُ هَذَا مِنْ هَذَا وَأَنَّ هَذَا الشَّجَرَ سَلَّمَهُ هَذَا إلَى هَذَا: كَانَ كَلَامًا مَعْقولا مَعَ الِاسْتِحَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ الِاسْتِحَالَةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ. فَقول الْقَائِلِ يُعِيدُهُ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ سِمَنِهِ أَوْ هُزَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُ فَإِنَّ صِفَةَ تِلْكَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ لَيْسَتْ مُمَاثَلَةً لِصِفَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ حَتَّى يُقال: إنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الْمُغَيَّرَةُ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ اسْتِحَالَةٌ؟ وَلَا اسْتِفْرَاغٌ وَلَا امْتِلَاءٌ وَلَا سِمَنٌ وَلَا هُزَالٌ ولاسيما أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ: طُولَ أحدهِمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ عَرْضَهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَهُمْ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ. وَلَيْسَتْ تِلْكَ النَّشْأَةُ مِنْ أَخْلَاطٍ مُتَضَادَّةٍ حَتَّى يَسْتَلْزِمَ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا كَمَا فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَلَا طَعَامُهُمْ مُسْتَحِيلًا وَلَا شَرَابُهُمْ مُسْتَحِيلًا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَمَا هِيَ أطعماتهم فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَلِهَذَا أَبْقَى اللَّهُ طَعَامَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَشَرَابَهُ مِائَةَ عَامٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَدَلَّنَا سبحانه بِهَذَا عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِذَا كَانَ فِي دَارِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ يَبْقَى الطَّعَامُ الَّذِي هُوَ رُطَبٌ وَعِنَبٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَالشَّرَابُ الَّذِي هُوَ مَاءٌ أَوْ مَا فِيهِ مَاءٌ مِائَةَ عَامٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَقُدْرَتُهُ سبحانه وَتعالى عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى لَا يَتَغَيَّرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ.
فَصْلٌ:
وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ التَّولد لابد لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ وَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ نَفْسَ الْهَوَاءِ الَّذِي بَيْن الزِّنَادَيْنِ يَسْتَحِيلُ نَارًا بِسُخُونَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْهُمَا تَنْقَلِبُ نَارًا فَقَدْ غَلِطَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَخْرُجُ نَارٌ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمَا مَادَّةٌ بِالْحَكِّ وَلَا تَخْرُجْ النَّارُ بِمُجَرَّدِ الْحَكِّ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ عَلَى شَيْءٍ أَسْفَلَ مِنْ الزِّنَادَيْنِ كَالصُّوفَانِ وَالْحِرَاقِ فَتَنْزِلُ النَّارُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ الثَّقِيلُ فَلَوْلَا أَنَّ هُنَاكَ جُزْءًا ثَقِيلًا مِنْ الزِّنَادِ الْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ لَمَا نَزَلَتْ النَّارُ وَلَوْ كَانَ الْهَوَاءُ وَحْدَهُ انْقَلَبَ نَارًا لَمْ يَنْزِلْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ طَبْعُهُ الصُّعُودُ لَا الْهُبُوطُ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْمَادَّةُ الْخَارِجَةُ نَارًا قَدْ يَنْقَلِبُ الْهَوَاءُ الْقَرِيبُ مِنْهَا نَارًا: إمَّا دُخَانًا وَإِمَّا لَهِيبًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَولداتِ خُلِقَتْ مِنْ أَصْلَيْنِ كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَإِلَّا فَالتُّرَابُ الْمَحْضُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ مَاءٌ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا حَيَوَانٌ وَلَا نَبَاتٌ. وَالنَّبَاتُ جَمِيعُهُ إنَّمَا يَتَولد مِنْ أَصْلَيْنِ أَيْضًا وَالْمَسِيحُ خُلِقَ مِنْ مَرْيَمَ وَنَفْخَةِ جِبْرِيلَ. كَمَا قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}. وَقال: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} وَقال: {فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قالتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا قال إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا. وَالْجَيْبُ هُوَ الطَّوْقُ الَّذِي فِي الْعُنُقِ لَيْسَ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ جَيْبًا وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي مُقَدَّمِ الثَّوْبِ لِوَضْعِ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا وَمُوسَى لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ: هُوَ ذَلِكَ الْجَيْبُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ قوليْنِ: هَلْ كَانَتْ النَّفْخَةُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ؟ أَوْ فِي الْفَرْجِ. فَإِنَّ مَنْ قال بِالْأَوَّلِ قال فِي فَرْجِ دِرْعِهَا وَإِنَّ مَنْ قال هُوَ مَخْرَجُ الْولد قال الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَخَ فِي دِرْعِهَا لَا فِي فَرْجِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ بَلْ هُوَ عُدُولٌ عَنْ صَرِيحِ القرآن. وَهَذَا النَّقْلُ إنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُنَاقِضْ القرآن. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْشِفْ بَدَنَهَا وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ كَانَ إذَا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَعَائِشَةُ مُتَجَرِّدَةٌ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً فَنَفَخَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ فَوَصَلَتْ النَّفْخَةُ إلَى فَرْجِهَا. وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ النَّفْخُ فِي الْفَرْجِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي آيَتَيْنِ وَإِلَّا فَالنَّفْخُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ وُصُولِ النَّفْخِ إلَى الْفَرَجِ مُخَالِفٌ لِلْقرآن مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْولد وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أحد مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَقَلَهُ أحد عَنْ عَالِمٍ مَعْرُوفٍ مِنْ السَّلَفِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَسِيحَ خُلِقَ مِنْ أَصْلَيْنِ: مِنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ وَمِنْ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَهَذَا النَّفْخُ لَيْسَ هُوَ النَّفْخَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْجَنِينُ مُضْغَةٌ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْخٌ فِي بَدَنٍ قَدْ خُلِقَ وَجِبْرِيلُ حِينَ نَفَخَ لَمْ يَكُنْ الْمَسِيحُ خُلِقَ بَعْدُ وَلَا كَانَتْ مَرْيَمُ حَمَلَتْ وَإِنَّمَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ النَّفْخِ بِدَلِيلِ قوله: {قال إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} فَلَمَّا نَفَخَ فِيهَا جِبْرِيلُ حَمَلَتْ بِهِ وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ رُوحٌ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا النَّفْخِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سبحانه أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ رُوحُهُ وَهُوَ جِبْرِيلُ هُوَ الرُّوحُ الَّذِي خَاطَبَهَا وَقال إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّك لِأَهَبَ لَك غُلَامًا زَكِيًّا فَقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهَا} أَوْ {فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أَيْ مِنْ هَذَا الرُّوحِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ وَعِيسَى رُوحٌ مِنْ هَذَا الرُّوحِ فَهُوَ رُوحٌ مِنْ اللَّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَالْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مِنْ أَصْلَيْنِ بِانْقِلَابِ الْمَادَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إذَا الْتَقَيَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَادَّةٌ فَتَنْقَلِبُ وَذَلِكَ لِقُوَّةِ حَكِّ أحدهِمَا بِالْآخَرِ فلابد مِنْ نَقْصِ أَجْزَائِهَا وَهَذَا مِثْلُ تَولد النَّارِ بَيْنَ الزِّنَادَيْنِ إذَا قُدِحَ الْحَجَرُ بِالْحَدِيدِ أَوْ الشَّجَرُ بِالشَّجَرِ كَالْمَرْخِ وَالْعِفَارِ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ قَدْحِ أحدهِمَا بِالْآخَرِ يَسْتَحِيلُ بَعْضُ أَجْزَائِهِمَا وَيَسْخَنُ الْهَوَاءُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَيَصِيرُ نَارًا وَالزَّنْدَانِ كُلَّمَا قُدِحَ أحدهُمَا بِالْآخَرِ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُمَا بِقُوَّةِ الْحَكِّ فَهَذِهِ النَّارُ اسْتَحَالَتْ عَنْ الْهَوَاءِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِسَبَبِ قَدْحِ أحد الزَّنْدَيْنِ بِالْآخَرِ. وَكَذَلِكَ النُّورُ الَّذِي يَحْصُلُ بِسَبَبِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُضِيءَ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ فَإِنَّ لَفْظَ النُّورِ وَالضَّوْءِ يُقال تَارَةً عَلَى الْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ: كَالنَّارِ الَّتِي فِي رَأْسِ الْمِصْبَاحِ وَهَذِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَادَّةٍ تَنْقَلِبُ نَارًا كَالْحَطَبِ وَالدُّهْنِ وَيَسْتَحِيلُ الْهَوَاءُ أَيْضًا نَارًا وَلَا يَنْقَلِبُ الْهَوَاءُ أَيْضًا نَارًا إلَّا بِنَقْصِ الْمَادَّةِ الَّتِي اشْتَعَلَتْ أَوْ نَقْصِ الزَّنْدَيْنِ وَتَارَةً يُرَادُ بِلَفْظِ النُّور وَالضَّوْء وَالشُّعَاع: الشُّعَاعُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْحِيطَانِ مِنْ الشَّمْسِ أَوْ مِنْ النَّارِ فَهَذَا عَرَضٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لابد لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ يَكُونُ قَابِلًا لَهُ فلابد فِي الشُّعَاعِ مِنْ جِسْمٍ مُضِيءٍ ولابد مِنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ حَتَّى يَنْعَكِسَ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ.
وَكَذَلِكَ النَّارُ الْحَاصِلَةُ فِي ذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ إذَا وُضِعَتْ فِي النَّارِ أَوْ وُضِعَ فِيهَا حَطَبٌ فَإِنَّ النَّارَ تُحِيلُ أَوَّلًا الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ الدُّهْنُ أَوْ الْحَطَبُ فَيَسْخَنُ الْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِهَا فَيَنْقَلِبُ نَارًا وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ بَعْدَ نَقْصِ الْمَادَّةِ وَكَذَلِكَ الرِّيحُ الَّتِي تُحَرِّكُ النَّارَ مِثْلَ مَا تَهُبُّ الرِّيحُ فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَطَبِ وَمِثْلُ مَا يَنْفُخُ فِي الْكِيرِ وَغَيْرِهِ تَبْقَى الرِّيحُ الْمَنْفُوخَةُ تُضْرِمُ النَّارَ لِمَا فِي مَحَلِّ النَّارِ كَالْخَشَبِ وَالْفَحْمِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِانْقِلَابِهِ نَارًا وَمَا فِي حَرَكَةِ الرِّيحِ الْقَوِيَّةِ مِنْ تَحْرِيكِ النَّارِ إلَى الْمَحَلِّ الْقَابِلِ لَهُ وَقَدْ يَنْقَلِبُ أَيْضًا الْهَوَاءُ الْقَرِيبُ مِنْ النَّارِ؛ فَإِنَّ اللَّهَبَ هُوَ الْهَوَاءُ انْقَلَبَ نَارًا مِثْلَ مَا فِي ذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ وَلِهَذَا إذَا طفئت صَارَ دُخَانًا وَهُوَ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِنَارٍ كَالْبُخَارِ وَهُوَ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِمَاءِ وَالْغُبَارُ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِتُرَابِ.
وَقَدْ يُسَمَّى الْبُخَارُ دُخَانًا وَمِنْهُ قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} قال الْمُفَسِّرُونَ: بُخَارُ الْمَاءِ كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ» وَهُوَ الدُّخَانُ. فَإِنَّ الدُّخَانَ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ بِشَيْءٍ حَارٍّ ثُمَّ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ الدُّخَانُ الصِّرْفُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ فَهُوَ دُخَانٌ وَهُوَ بُخَارٌ كَبُخَارِ الْقِدْرِ. وَقَدْ يُسَمَّى الدُّخَانُ بُخَارًا. فَيُقال لِمَنْ اسْتَجْمَرَ بِالطِّيبِ تَبَخَّرَ وَإِنْ كَانَ لَا رُطُوبَةَ هُنَا بَلْ دُخَانٌ الطِّيبِ سُمِّيَ بُخَارًا.
قال الْجَوْهَرِيُّ: بُخَارُ الْمَاءِ مَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ كَالدُّخَانِ وَالْبَخُورِ بِالْفَتْحِ مَا يتبخر بِهِ؛ لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ الْهَوَاءُ نَارًا بَعْدَ أَنْ تَذْهَبَ الْمَادَّةُ الَّتِي انْقَلَبَتْ نَارًا. كَالْحَطَبِ وَالدُّهْنِ فَلَمْ تَتَولد النَّارُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ كَمَا لَمْ يَتَولد الْحَيَوَانُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ.
فَصْلٌ:
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ التَّولد مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فلابد أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلَيْنِ وَمِنْ انْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْأَصْلِ. وَإِذَا قِيلَ فِي الشِّبَعِ وَالرِّيِّ: إنَّهُ مُتَولد أَوْ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ أَنَّهُ مُتَولد فلابد فِي جَمِيعِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ أَصْلَيْنِ لَكِنَّ الْعَرْضَ يَحْتَاجُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَادَّةٍ تَنْقَلِبُ عَرَضًا: بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تُخْلَقُ مِنْ مَوَادَّ تَنْقَلِبُ أَجْسَامًا كَمَا تَنْقَلِبُ إلَى نَوْعٍ آخَرَ كَانْقِلَابِ الْمَنِيِّ عَلَقَةً. ثُمَّ مُضْغَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَصْلٍ وَأحد: كَخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ الضِّلَعِ الْقُصْرَى لِآدَمَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ مَادَّةٍ أُخِذَتْ مِنْ آدَمَ فَلَا يُسَمَّى هَذَا تَولدا؛ وَلِهَذَا لَا يُقال: إنَّ آدَمَ ولد حَوَّاءَ وَلَا يُقال إنَّهُ أَبُو حَوَّاءَ بَلْ خَلَقَ اللَّهُ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ.
وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَيُقال: إنَّهُ ولدتْهُ مَرْيَمُ وَيُقال: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَكَانَ الْمَسِيحُ جُزْءًا مِنْ مَرْيَمَ وَخُلِقَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي فَرْجِ مَرْيَمَ كَمَا قال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} وَفِي الْأُخْرَى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وَأَمَّا حَوَّاءُ فَخَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ مَادَّةٍ أُخِذَتْ مِنْ آدَمَ كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ الْمَادَّةِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَالرِّيحُ الَّذِي أَيْبَسَتْهُ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا فَلِهَذَا لَا يُقال إنَّ آدَمَ ولد حَوَّاءَ وَلَا آدَمَ ولدهُ التُّرَابُ وَيُقال فِي الْمَسِيحِ: ولدتْهُ مَرْيَمُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ النَّفْخِ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا جِبْرِيلُ.
قال اللَّهُ تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قالتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا قال إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قالتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قال كَذَلِكِ قال رَبُّكِ هُوَ على هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. فَهِيَ إنَّمَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ النَّفْخِ لَمْ تَحْمِلْ بِهِ مُدَّةً بِلَا نَفْخٍ ثُمَّ نُفِخَتْ فِيهِ رُوحُ الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ فَفَرْقٌ بَيْنَ النَّفْخِ لِلْحَمْلِ وَبَيْنَ النَّفْخِ لِرُوحِ الْحَيَاةِ.
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُقال إنَّهُ مُتَولد مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْوَالِدِ وَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ وَالرَّبُّ تعالى صَمَدٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ سبحانه لَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةً فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ ولد. وَأَمَّا مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ تَولد الْأَعْرَاضِ. كَمَا يُقال: تَولد الشُّعَاعُ وَتَولد الْعِلْمُ عَنْ الْفِكْرِ وَتَولد الشِّبَعُ عَنْ الْأَكْلِ وَتَولدتْ الْحَرَارَةُ عَنْ الْحَرَكَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ تَولد الْأَعْيَانِ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا لابد لَهُ مِنْ مَحَلٍّ ولابد لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ. وَلِهَذَا كَانَ قول النَّصَارَى إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ- تعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ- مُسْتَلْزِمًا لَأَنْ يَقولوا: إنَّ مَرْيَمَ صَاحِبَةُ اللَّهِ فَيَجْعَلُونَ لَهُ زَوْجَةً وَصَاحِبَةً كَمَا جَعَلُوا لَهُ ولدا وَبِأَيِّ مَعْنًى فَسَّرُوا كَوْنَهُ ابْنَهُ فَإِنَّهُ يُفَسِّرُ الزَّوْجَةَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَالْأَدِلَّةُ الْمُوجِبَةُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ تُوجِبُ تَنْزِيهَهُ عَنْ الْولد فَإِذَا كَانُوا يَصِفُونَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ اتِّصَافِهِ بِهِ كَانَ اتِّصَافُهُ بِمَا هُوَ أَقَلُّ بُعْدًا لَازِمًا لَهُمْ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى.
فَصْلٌ:
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَنَفَاهُ عَنْهُ بِقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولد} وَبِقوله: {أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقولونَ ولد اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سبحانه وَتعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ ولد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ كَمَا أَنَّ مَا نَفَاهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْولد يَعُمُّ أَيْضًا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاتِّخَ إذا تِ الاصطفائية كَمَا قال تعالى: {وَقالتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
قال السدي: قالوا: إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى إسْرَائِيلَ أَنَّ ولدك بِكْرِيٍّ مِنْ الْولد فَأُدْخِلُهُمْ النَّارَ فَيَكُونُونَ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى تُطَهِّرَهُمْ وَتَأْكُلَ خَطَايَاهُمْ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ. وَقَدْ قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ ولد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ} وَقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ ولدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} وَقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ ولدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} وَقال: {وَقالوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولدا سبحانه بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} وَقال: {وَقال اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَأحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} إلَى قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} إلَى قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سبحانه وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} وَقال: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقولونَ قولا عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا القرآن لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقولونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} وَقال: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقولونَ ولد اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ} وَقال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} إلَى قوله: {إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} وَقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا}.